مالي بين فوضى القرار وضريبة العزلة... حين يفقد الحكم العسكري بوصلة الحكمة

بواسطة ediwan

يبدو أن الحاكم العسكري في مالي، العقيد آسيمي غويتا، يواصل رسم ملامح مرحلة سياسية ملغومة، يغلب عليها منطق ردّ الفعل الانفعالي، أكثر من استشراف المصالح الوطنية العليا لبلاده في هذا الظرف الدقيق من تاريخها.

آخر حلقات هذا النهج المتسرع تمثلت في قرار مالي المفاجئ بحظر عبور الطيران الجزائري فوق أجوائها، كرد فعل على حادثة إسقاط طائرة مسيّرة جزائرية قيل إنها اخترقت الحدود المالية. وهو إجراء لا يحمل أي رصيد من التقدير الاستراتيجي، ولا يراعي حجم الخسائر المترتبة على إغضاب جار بحجم الجزائر، تربطه بمالي خيوط كثيرة من الجغرافيا، والمصالح، والتاريخ المشترك.

الرد الجزائري جاء صاعقاً وسريعاً، يحمل رسالة قاسية لحاكم باماكو؛ إذ سارعت الجزائر إلى فرض سلسلة من العقوبات الرمزية والعملية في آن واحد: غلق مجالها الجوي أمام كل الطيران المتجه إلى مالي، إلغاء إعفاء آلاف الطلاب الماليين من رسوم التعليم العالي، وتعليق كافة المساعدات المالية والتنموية الموجهة لدولة مالي، وهو ما يزيد من عزلة مالي في لحظة حرجة تعاني فيها أصلاً من فراغ الدعم الفرنسي، وتداعيات الانفصال الأمني والعسكري عن باريس.

يحدث كل هذا في ظل علاقة فاترة أصلاً بين باماكو ونواكشوط، على خلفية ملفات معقدة تتعلق بالهجرة غير النظامية، وترحيل المهاجرين، وتراكم انعدام الثقة على الحدود المشتركة.

ما يكشفه هذا المشهد بوضوح هو أزمة الحكم العسكري حينما يفتقد الحس السياسي المتزن، ويتعامل مع ملفات الجوار الإقليمي بمنطق العناد والمغامرة، وليس بمنطق التوازنات والمصالح الكبرى.

السياسة الخارجية، خاصة في الجوار الإقليمي، ليست ساحة للمزايدات ولا حلبة للعضلات السيادية المتشنجة، بل هي فن إدارة التناقضات بأقل تكلفة ممكنة، ورسم تحالفات تحفظ المصالح الوطنية ولا تعمق العزلة.

مالي اليوم تدفع مجدداً ثمن خياراتها المرتبكة، وضريبة التموقع بين محاور إقليمية معقدة، دون امتلاك الأدوات الكافية للعب هذا الدور الخطير.

والأخطر أن مثل هذه القرارات الانفعالية تعمّق الصورة النمطية عن هشاشة الحكم العسكري في الدول المدنية، حيث تغيب المؤسسات التشاركية، وينعدم التداول الهادئ للقرار، وتختفي بوصلة الحكمة خلف نزوات السلطة المطلقة.

الاستراتيجيات الكبرى لا تدار بردات الفعل، والحدود لا تُحرس بالشعارات، والجيران لا يُغضبون بلا حساب... تلك دروس السياسة حين يتحدث المنطق بلغة الدول، لا المغامرين العابرين فوق جغرافيا الأزمات.